كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا ثبت ذلك، صح من هذه الجهة، أن قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك.
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ}.
معنى الطيبات ما مضى.
وقوله اليوم، يجوز أن يكون اليوم الذي نزلت فيه الآية، ويجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، و{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قيل: إنه يوم عرفة في حجة الوداع.
واعلم أنه ليس المقصود من ذكر اليوم هاهنا صورة اليوم، وإنما المراد به الزمان، كما يقال أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر، وهو من قبيل ما يكون معنى الزمان منه أعم من اللفظ سابقا إلى الفهم.
مثله قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ}.
ولم يرد به صورة اليوم، وإنما عنى به الزمان، حتى إنه لو فرّ من الزحف ليلا كان آثما.
قوله تعالى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} معناه ذبائحهم، إذ لا يجوز أن يكون المراد به طعامهم، إذ لا شبهة على أحد في حلّ سائر طعامهم. سواء كان المتولي لصنعه كتابيّا أو مجوسيّا.
فإذا كان أكل ذبيحة أهل الكتاب بالاتفاق، فلا شك أنّهم لا يسمّون على الذبيحة، إلا على الإله الذي ليس معبودا حقيقة. مثل العزير والمسيح. ولو سمّوا الإله حقيقة، لم تكن تسميتهم بطريق العبادة.
وإنما تكون على طريق آخر، فاشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل.
ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة، إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصارى إنما يذبحون على اسم المسيح، وقد حكم اللّه تعالى بحل ذبائحهم مطلقا.
وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلا، كما يقول الشافعي.
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: يدل على جواز نكاح الكتابيات، وقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ} يمنع نكاح النصارى، فإذا لم يكن بدّ من إعمالها صار الشافعي إلى تحريم الأمة الكتابية، أخذا من قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ}، وأباح نكاح الحرة الكتابية بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
والجمع بينهما أولى من تعطيل أحدهما.
وقد منع مانعون من نكاح الكافرات، كتابيات كن أو مجوسيات، وحملوا قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المراد به أنهن كن كتابيات ثم أسلمن. كما قال اللّه تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ}.
وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ}. الآية.
والمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم.
وقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فالمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم.
وهذا بعيد، فإنه تعالى قال: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ}.
وذلك يشتمل على جميع المؤمنات، فلا يجوز أن يعطف بعده المؤمنة على المؤمنة ويكون إسقاط فائدة ذكر المؤمنة.
والذي يحرم نكاح الحرة الكتابية يعتصم بقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ}، وذلك محمول عند مخالفهم على الحربية إذا خرج زوجها مسلما، والحربي ونخرج امرأته مسلمة، ويدل عليه قوله: {وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ} الآية.
وحكي عن ابن عباس أنه لم يجوّز نكاح الكتابيات إذا كن حربيات، لقوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية.
وقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
ويجوز أن يكون ذلك عند مخالفتهم، على معنى التشدد عليهم فيما أوجبه الدين، وإلا فيجوز شراء الأشياء وبيعها منه، وإن كانت الهبة سبب المودة.
قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، الآية.
واعلم أن ظاهر الآية، يعلق الوضوء بالقيام إلى الصلاة، وليس الأمر كذلك إجماعا، فلابد من ضمير معه، وذلك هو الحدث.
والذي هو الحدث إذا قدرناه علة، فتكرير العلة هو الذي يقتضي تكرير الحكم، والقيام إلى الصلاة ليس شرطا ولا علة.
ولو قدر شرطا، فالحكم لا يتكرر بتكرر الشرط، فليس في الآية ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة من حيث اللفظ.
فإذا قال القائل لامرأته: إذا دخلت الدار فإنك طالق، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، ولكن التكرار في الطهارة عند تكرار الحدث لاعتقادكون الحدث علة، والحكم يتكرر بتكرر العلة والسبب.
إذا ثبت هذا، فاللّه تعالى يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}.
قال مالك بن أنس: عليه إمرار الماء على الموضع ودلكه بيده، وإلا لم يكن غاسلا.
وقال غيره: عليه إجراء الماء وليس عليه دلكه.
ولا شك في أنه إذا انغمس في الماء، أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك، يقال إنه قد غسل.
واعلم أنه لا تغيير في ذلك إلا حصول الإسم، وإذا حصل كفى.
والمعتبر أن يجرى عليه من الماء ما يزيد قدر المسح. فلو مسح المغسول لم يجز، فإن اللّه تعالى فرق بينهما، وليس في المسح غسل. نعم إذا غسل الممسوح، جاز المأمور به وزيادة.
ثم قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، ليس يقتضي نية العبادة.
نعم قال تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}.
وظن ظانون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، دل على أنه أوجبه لأجله وأثبته بسببه، وأنه أوجب له قصد النية.
وهذا ليس بصحيح، فإن إيجاب اللّه تعالى عليه الوضوء لأجل الحدث، لا يدل على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك، بل يجوز أن يجب لأجله، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة، ونيتها لأجلها.
وقيل لهم: لما قال اللّه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، أوجب فعل الغسل، فكانت النية شرطا في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل اللّه تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمره اللّه تعالى به.
فإذا نحن قلنا: إن النية لا تجب عليه، لم يجب عليه الفعل: أي فعل ما أمره اللّه تعالى.
ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض آخر، ما قصد أداء الواجب، والذي وجب عليه فعله لا يحصل دون قصده.
فإن قيل: قد يجب عليه أشياء عدة، وتحصل دون النية، مثل رد الغصوب والودائع وإزالة الأنجاس.
فيقال: كل ذلك لا يجب عليه فيه فعل، وإنما ينهى عن استدامة الغصب، ويجب عليه ترك ذلك، وهاهنا يجب عليه فعل الوضوء.
قالوا: وقد يجب على الرجل الإنفاق على قريبه وزوجته وقضاء ديونه، ولا يحتاج إلى النية.
والجواب: أن كل ذلك معلق وجوبه على أغراض، متى حصلت تلك الأغراض لم يتحقق الوجوب، مثل النفقة تجب للكفاية، فإذا حصلت الكفاية لم تجب، أو لغرض آخر من الأغراض العاجلة، وليس أمر الطهارة كذلك، فإن وجوبها لم يكن إلا لحق التعبد.
فإذا وجب الفعل للّه تعالى، فما لم يفعل للّه تعالى كان الأمر قائما، وليس فعل غير القاصد أداء للأمر ولا قياما به، فاعلمه.
وذكر الرازي في أحكام القرآن على هذا، كلاما دل به على قلة تحصيله، فقال: إنما يجب ما ذكروه في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها، ولم تجعل شرطا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فلا يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر، إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط للصلاة، فإن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء.
وهو الذي ذكره باطل، فإن كونه شرطا لغيره، معناه توقف وجوبه على وجوب فعل آخر، وذلك لا يدل على عدم وجوبه، ووجوب فعله، وقصد الامتثال فيه.
نعم، وجوبه لغيره، يدل على أنه إذا نوى ما قد وجب لأجله كفاه، مثل أن ينوي الطهارة للصلاة أو لمس المصحف.
ومن علمائنا من شرط فيه نية القربة، لأنه رأى الطهارة واجبة تعبدا إلا أن وجوبها عند وجوب فعل آخر.
قالوا: الطهارة ليست واجبة تحقيقا، وإنما الصلاة ممتنعة دونها، كما أنها ممتنعة دون الستر والاستقبال وطهارة الثوب، ولذلك نقول إنه إذا أراد قراءة القرآن وهو جنب اغتسل، وإذا أراد دخول مسجد وهو جنب اغتسل، ليس لأن الطهارة واجبة في هذه الحالة، وكيف تجب والذي يظهر له من الفعل غير واجب؟ وإنما يحرم ذلك الفعل دون وجود شرط جوازه وهو الطهارة، وذلك ليس يبني عن وجوبه في نفسه.
وليس يمكن أن يقال أن وجوب الصلاة، يدل على وجوب ما لابد منه للصلاة. لأنه يقال: ليس يجب عليه الفعل في نفسه، وإنما يحرم عليه أن يصلي محدثا، أو أن يخرج عن كونه محدثا بإمرار الماء على الأعضاء، سواء كان في ذلك الوقت، أو توضأ قبله لمس مصحف أو قراءة قرآن وغير ذلك مما لا يجب من الأفعال.
ويدل على أن الوضوء واجب من حيث الحقيقة: أنه لو هوى من موضع عال من غير قصد منه، إلا أنه على مسامتته ماء طاهر طهور، ونوى الوضوء صح.
ومعلوم أن النية قصد، والقصد يستدعي مقصودا. والمقصود ليس فعلا له، ولا يمكن أن يقال إن حصوله في الماء فعله، فإنه لا يتعلق باختياره، فالذي لا اختيار له فيه، كيف يقدر مقصودا له؟
وهذا كلام عظيم الوقع عند المتأملين.
ويجاب عنه بأن الطهارة واجبة حقيقة، فإنها وإن وجبت عند وجوب غيرها، فليس من ضرورة تعلقها بغيرها، أو من ضرورة وجوب غيرها حقيقة مثل أخذ جزء من الرأس في استيعاب الوجه، فإنه لابد منه للاستيعاب حقيقة، وأما العضو، فإنه شرط شرعا، وإذا صار شرطا صار شرط وجوبه بالشرع. ومتى كان وجوبه بالشرع، لم يخرج عن كونه واجبا.
وأما الذي ذكروه إنه لم يجب، ولكنه تحرم الصلاة مع الحدث، فيقال: ولا معنى للحدث إلا امتناع أفعال يتوقف وجودها على وجود شرطها، فهذا معنى الحدث لا غير.
وقوله إنه لو أراد دخول مسجد أو قراءة قرآن وجب الغسل، لا لأن قراءة القرآن واجبة.
فيقال بل الأمر كما ذكرتم في أن القراءة لا تجب، ولكن للنوافل شروط يجب فعلها إذا أراد فعل النوافل، فإن من أراد مباشرة أمر، وجب عليه مباشرة شروطه، إلا أن الشروط في ذواتها غير واجبة.
فأما إذا كانت الطهارة قد تقدمت، فذلك لأن الشيء الواحد يكون شرطا في أشياء كثيرة، كما أن من الأشياء ما يكون شرطا في شيء واحد فليس في ذلك ما ينافي الحقيقة التي قلناها.
وأما قولهم: إن الفعل لا يشترط، فاعلم أنه إن ثبت عدم الفعل الذي يتعلق به القصد من كل وجه، فلا وجه لجواز الوضوء، ولا نصر للشافعي فيه.
قالوا: فإذا غسل غيره وجهه مع قدرته على الغسل، فأي فعل منه هاهنا؟
قلنا: بلى، وهو أن إذنه له أن يوضيه، فعل منه يجوز أن يتعلق التكليف به والامتحان، كما قيل في الذي يقول للمسكين: خذ مالي هذا عن جهة الزكاة، فإنه يصح، فإنه حصل به الامتحان والتكليف. وكذلك ما نحن فيه، أما إذا هوى من علو وفي مستقر وقوعه ماء، فلا يتحقق منه القصد الذي يمكن أن يتعلق به امتحان أو تكليف، فظهر الفرق بينهما.